مدونة الأسرة والفقه الإسلامي
عبد الحفيظ مشماشي
إن المطالب المتكررة لتعديل مدونة الأسرة، تبقى من حيث ظاهرها دعوة لمواكبة التشريع لمستجدات العصر، لكنها في حقيقتها تستبطن صراعا وتدافعا مجتمعيا بين دعاة التغريب وقوى التشبث بالتراث، وعلى تخوم الفريقين نشبت حروب كلامية، انتقى فيها كل فريق في وصف الآخر قاموسا من وصومات الردة والرجعية والأرتذوكسية الدينية والزندقة، ولعل الخصومة بين الفريقين ليس منشؤها الخلاف حول مبادئ وأفكار، ولكن الخصومة الحقيقية هي فيما وراء محركات الأفكار التي تتوسل بمطالبها -التي قد تكون مشروعة في جزء منها - للدفع بالنقاش إلى مجالات أخرى يتم استبطانها في المناقشة العلنية.
إن استدعاء منظومة الأحكام التي تختزنها المدونات الفقهية على مدى عقود، لا يكون باسترجاع آلي متكرر لأحكام وضعت لتحكم الوقائع الماضية وتنزل على أحداث زمانها. لأن مثل هذا الاستدعاء ما هو إلا جمود واستقالة للفكر عن المشاركة في إيجاد الأجوبة المناسبة للأسئلة التي تطرحها المستجدات الطارئة على حياة الناس، سواء بما كسبت أيديهم، أو بما حملته إليهم منتجات المدنية الحديثة من تحديات.
إن تحكيم الشريعة في حياتنا وفي تشريعاتنا يقتضي الفهم الصحيح لفلسفتها المتوارية وراء كل حكم من أحكامها، واستصحاب هذا الفهم عند إعادة النظر في الوقائع الطارئة المحملة بهواجس واستفسارات لدى المكلفين المخاطبين بأحكامها، من غير تبرم أو تغافل عن المشاركة الفعالة تقديم الأجوبة التي تتولد بفعل بذل الجهد لإدراك الحكم الشرعي.
فالاجتهاد بهذا المعنى هو إعادة مركزة الدين ضمن واقع الناس، وتبصيرهم بحركيته التي لا تتعارض مع تطور الحياة اليومية، وتغير أحوال الناس في علاقاتهم ومعاشهم، وهو أيضا إحياء لمفاهيم الإسلام التي اندرست وغابت عن واقع الناس في أزمنة الاغتراب وعصور الانحطاط حتى صارت غريبة عن المجتمع الذي نشأت فئة منه على تسول أحكامها مما انتهت إليه المدنيات العربية التي تبدع في وضع قوانين تحكم واقعها، لكن ليس بالضرورة أن ما أبدعته صالح لواقعنا الذي تختلف تركيبته الفكرية والبشرية عن واقع جوارنا الجغرافي، ولو كان هذا الجوار له حضور في منظمات دولية لها نفوذ وتأثير على فئات واسعة من أبناء أمتنا.
فالتشريع الأسري الإسلامي قد أرسى اصولا وكليات لا ينال منها تغير الأحوال وتبدل العادات والأعراف وتعاقب الأزمان والعصور، لكنه بالمقابل قد وسع باب الاجتهاد في الفروع والجزئيات وكذا في الوسائل بما يمكن من مواكبة التشريع لما تعرفه علاقات الناس من تطور سواء على مستوى شكلها أو جوهرها .
.لا يوجد أي كتاب